ملحوظة: لقد تم إغلاق باب التبادل الإعلانى البنرى حتى إشعار آخر .
مدونة مدون
مدونة مدون
الأحد، 9 يونيو 2013
2:34 ص

التنوع المجالي حتمية إعداد التراب من أجل التكامل بين الجهات في المغرب



                                                               الدكتور عبد الله العوينة
                                                                              كرسي البيئة والتنمية المستديمة
                                                                          كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط

ملخص

            يعرف المغرب تنمية أكيدة، تتضح على واجهات عدة وفي قطاعات متنوعة. إلا أن اختلال التوازن بين جهات البلاد، نتيجة التمركز المفرط للأنشطة والسكان في المحور الأطلنتي الساحلي، وما يقابله من التهميش الذي يصيب مناطق عدة، كالمجالات الجبلية والسهوب الشرقية، يطرح إشكالية تماسك النسيج الاجتماعي والمجالي.
        وفي الوقت نفسه تطرح في هذه المناطق المهمشة إشكالية الضغط المفرط على الموارد الطبيعية، بينما تعيش المجالات المركزية التي تستقبل الفلاحات العصرية والصناعة وحركة التمدن، إشكالية تلويث البيئة.
        لذا، فإن اعتبار لزوم تأهيل كل المجالات، بدمج مختلف القطاعات الاقتصادية، ومعالجة الاختلالات الترابية، والجواب عن كل مشاكل البيئة في تنوعها، وتفعيل الخصوصيات الثقافية ـ كل هذا يمثل السبيل الوحيد لبلوغ تنمية مستديمة حقيقية، ضمن التوازن والتلاحم الضروريين، في إطار من التكامل والتعاون.


مقدمة
        يهدف إعداد التراب إلى الرفع من القدرة التنافسية لبعض المجالات التي ظلت مهمشة، وذلك عن طريق تنمية مواردها وتحسين ظروف العيش بها، رغبة في تقليل الفوارق بين المجالات الجغرافية ومكونات المجتمع. ويتماشى هدف الرفع من المستوى الإنتاجي مع مراعاة الاستدامة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بحضور البعدين الاجتماعي والبيئي.
        ذلك بأن الاستدامة والاستمرارية تشمل أبعاداً متعددة. فضمنها أساساً بعد اقتصادي يتمثل في النماء والإنتاج، وهو هدف صار صعب التحقيق من دون الجمع بين تشجيع هام للاستثمار الخاص ومع مراعاة استمرار حضور قوي للدولة. وضمنها يحتل البعد الاجتماعي موقعاً أساسياً، لأن التقليل من الفوارق الاجتماعية يضمن تحقيق التوافق والتعاضد. والبعد الثقافي ضمان للتنوع. أما تطوير الموارد الطبيعية والحد من استهلاكها المفرط والحفاظ على الأوساط البيئية وعلى التنوع الإيكولوجي، فهي أبعاد أساسية لضمان النشاط البشري. إلا أن كل هذا لا يمكن أن يضمن الاستدامة الفعلية إذا لم يتحقق داخل البلد الإعداد المجالي المتمثل في نوع من التوازن بين الجهات والأوساط، وفي تقليل الفوارق بين السهول المنتجة الخصبة والصحاري القاحلة والجبال الوعرة، وبين الأرياف والمدن، وبين الأحياء المركزية في هذه الأخيرة والأحياء الهامشية. بهذا التوافق والتوازن تضمن شروط النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية.
        أما مستويات إعداد التراب، فهي متعددة: فهناك مستوى التقسيمات الإدارية إلى جهات وأقاليم، وهو تقسيم يراعي في الوقت نفسه خصوصيات الطبيعة والتوزيع السكاني والعلاقات التاريخية وآفاق التطوير المجالي.
        وهناك مستويات الإعداد المتكيفة مع طبيعة المشاريع والقطاعات، من أقاليم فلاحية أو سياحية أو صناعية. وما دام الإعداد مرتبطاً أساساً بالمشاريع، فإن هذا المستوى يعتبر إطاراً لتصور مستقبل المجالات الجغرافية ولتخصيص التدخلات المتعلقة بها.
        ولضمان نجاح سياسة الإعداد هاته، هناك العديد من الأدوات القادرة على توجيه المشاريع والاستثمارات، من أهمها الحوافز الجبائية والمؤسساتية والمخططات التوجيهية. لكن إرساء الديمقراطية المحلية الفعلية يمثل أجدى سبيل لبلوغ هذا الهدف، إذا ما عممت لجن مؤسساتية للتشاور تضمن التوافق على مشروع مجتمعي يضمن التوازن والنماء. وهنا تظهر أهمية التشاور الوطني، عبر إقامة حوار بين المتدخلين والمهتمين على عدة أصعدة، لبلوغ تحضير ميثاق وطني موحد، يطرح القواعد الأساسية والاختيارات الكبرى والأولويات ويتصور الأدوات من أجل بلوغ الأهداف الكبرى المخططة.
        في هذه المحاولة، سنسلك خطتين:
        ـ  الأولى: قطاعية، تهتم بالسياسة الفلاحية وضرورة تنطيقها وأقلمتها من أجل الوصول إلى النجاعة الإنتاجية الضرورية.
        ـ  الثانية: مجالية، تبين حتمية تنمية أحد الأوساط الهامة، وهو الوسط الجبلي، لضمان تكامل وتعاضد مع السهول النامي.
1  ـ  التناول المجالي لسياسة التنمية الفلاحية: التنطيق الفلاحي
        لقد عبر المغرب عن توجه مستقبلي نحو نظام الجهوية، وانطلق في تطبيق أسس اللامركزية التي تمثل إحدى أولويات البرنامج الحكومي. كما عبر عن ضرورة البحث عن توازن مجالي مبني على إعداد محكم للتراب. لذا أصبحت السياسات القطاعية المتعلقة بالفلاحة والتنمية القروية ملزمة بأن تنحو نحو الأقلمة والتنوع، على أساس تقسيمات ترابية تخضع لمنطق خاص وتتفاعل في إطار سياسة أشمل مع التقسيمات الأخرى التي تخضع لمسببات اقتصادية أو ديموغرافية أو سياسية. وتسمح المقاربة المجالية للفلاحة بتصور تدخلات وتخطيطات متكيفة مع تنوع الواقع المجالي، أي مع معايير طبيعية وبشرية محددة، ومع الوضع الحالي للموارد، آفاق تنميتها.
        ولتحديد استراتيجية للتنمية الفلاحية، من الواجب التكيف مع تنوع الاستراتيجيات المحلية التي تنبني أساساً على معايير تحددها الإمكانات والعوائق الطبيعية، لكنها ترتبط كذلك بأنظمة الإنتاج الفلاحي وبالمحيط البشري.
        وتختلف هذه المعطيات حسب الأقاليم، الأمر الذي يعطي إمكانات إنتاج متفاوتة. كما أن آفاق التطوير، وإمكانات الرفع من الإنتاج وتحسين ظروفه، لا تتساوى من إقليم لآخر. فكل منطقة فلاحية تحتوي على ظروف معينة، تسمح لها بتوجه خاص بها. ولذا، فالخيارات التقنية ليست واحدة. بل من اللازم القيام بها على أساس إقليمي؛ كذلك من اللازم تكييف قانون الاستثمارات الفلاحية مع الحاجيات والاختيارات الإقليمية.
        وتمثل المقاربة المجالية للفلاحة طرحاً آخر للإشكالية الترابية، ينطلق من إمكانات كل مجال على المستوى الفلاحي ومن الأنظمة الفلاحية التي طوّرها الإنسان داخل هذه المجالات. وينفتح على آفاق تنمية فلاحة هذه المجالات، وذلك بسن سياسة فلاحية متكيفة من جهة ومندمجة من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، تسمح هذه المقاربة بالوصول إلى الإدماج، وذلك يجعل كل مجال يستقبل البرمجة التي تحددها كل القطاعات الفلاحية، ويدمجها بعضها مع بعض في تصور شمولي توجيهي، يعطي لكل قطاع حقه ويؤسس لخلق ظروف من التكامل بين القطاعات.
        والأكيد أن فلاحة المغرب متنوعة، بل تتسم بالتمايز على مقاييس عدة:
        ـ  فهناك التمايز الواسع الآفاق، على مستوى مجموعات كبرى، يحسم في تحديدها عاملان: العامل الطبيعي المرتبط بظروفها المناخية والتضاريسية والإحيائية، والعامل ألفلاحي الذي يتمثل في الأنظمة الزراعية الغالبة في كل مجال، والتي تعتبر نتاجاً لتفاعل الإنسان عبر الأجيال المتتالية، ولتكيفات متلاحقة مع وسط بيئي ما. هذه المجموعات الكبرى عددها محدود ومساحة كل واحدة منها كبيرة، والتنوع الداخلي ضمنها مهم. ولذا، فإنه من الصعب اعتبارها المقياس الصالح لتخطيط توجهات متميزة للسياسة الفلاحية.
        ـ  وهناك التمايز الدقيق، الذي يمثل الواقع المعيش الجلي في الميدان والعميق لما يحتويه من حمولة سوسيولوجية. وهو التمايز بين الوحدات الفلاحية الصغرى. ويعتبر هذا المقياس مقياس الإدماج الفعلي؛ إذ تتسم هذه الوحدات بانسجام داخلي كبير، يراعي الظروف الطبيعية والنظم الفلاحية معاً.
        لكن المقاربة المجالية تحتاج إلى مقياس وسيط بين مقياس المجموعات الكبرى الإيكولوجية والوحدات الصغرى الفلاحية. ذلك بأن الغاية ليست البحث عن تقسيم مجالي يندرج ضمن وحدات »متخصصة«، وإنما الغاية هي البحث عن الاندماج. وهذا يتطلب العمل بمقياس مجالي متوسط، في إطار وحدات تتبناها كل القطاعات الفلاحية، ويحدد كل قطاع استراتيجيته دون إغفال هذا البعد الأساسي، لأنه يسمح بتلاقي وتوافق مختلف الاستراتيجيات القطاعية على أرض الواقع.
        تمثل المجموعات الإيكولوجية ـ الفلاحية المستوى الأول لتنطيق الفلاحة، لأنه يقسم البلاد إلى نطاقات كبرى أو مجموعات إيكولوجية ـ فلاحية. وهي المجالات المعهودة والمبنية على أساس تركيب خرائط معدة للمؤشرات الطبيعية والبشرية، تلك التقسيمات التي كانت القاعدة في تصور مجموعة من السياسات الفلاحية الكبرى.
        ـ  تتحدد الجبال بمؤهلاتها الغابوية والرعوية، إضافة إلى إمكانات إنتاج مواد فلاحية خاصة وذات قيمة عالية. وترتبط هذه المؤهلات بطبيعة الجبال، التي تتميز بارتفاع مقادير وتيرة التهاطل، مقارنة مع السهول المجاورة، وبوفرة المياه. كما ترتبط بتراكم حضاري في عدد من المجالات الجبلية سمح بتكوين رصيد من التقنيات والمهارات التي تمثل تراثاً لا يعوض. لكل هذه الأسباب، فإن الاستراتيجية الفلاحية الخاصة بهذا النطاق تنبني على هدفين متكاملين: تكثيف الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية في المواقع الأكثر مؤهلات، والعمل على الحفاظ على البيئة وإعادة تأهيل الموارد في كل المواقع الأخرى، حيث تزداد الحساسية والهشاشة.
        ـ  تمثل السهول والتلال شبه الرطبة والتي تتلقى تساقطات كافية لإنتاج بوري منتظم، مناطق محظوظة، لأنها في الوقت نفسه تحتوي على أتربة خصبة أو قابلة للتحسين. هذا المجال، بالرغم من تجانسه الطبيعي، يعرف تمايزاً في التاريخ الفلاحي، إذ يتم فيه التفريق بين أراضي قديمة الاستيطان والاستغلال (مثال تلال مقدمة الريف) وأخرى ظلت مجال تنقل للرعاة إلى بداية هذا القرن (مثال الغرب ومنطقة زعير). إلا أن ما ميز القرن العشرين هو المجهود الهام الذي عرفته هذه المناطق من أجل تهيئتها واستغلال مواردها وتطوير الإنتاج بها. وهذا ما يفسر الكثافات البشرية العالية في أرياف هذه المناطق. كما أن هذه المجالات تتمركز بها أكبر مدن المغرب. لذا لا يجب إغفال الدور الكبير الذي تؤديه هذه الحواضر في علاقاتها بفلاحات هذا النطاق. وتنبني السياسة الفلاحية في هذا النطاق على تطوير الفلاحة البورية وتنويع المنتوج والرفع من المردود، لكنها لم تغفل الدور الذي يلعبه السقي في التكثيف والتنويع، استجابة لمتطلبات التجمعات الحضرية الكبرى.
        ـ  تغطي السهول والهضاب شبه الجافة والجافة مجالات واسعة في المغرب الأطلنتي والمغرب الشرقي. إلا أن التدرج في ظروف المناخ (من شبه الجاف إلى الجاف) وفي وفرة المياه وإمكانات تحويلها، وفي طرق تكيف المجموعات البشرية مع الظروف الطبيعية ـ كل هذا سمح بالتفريق بين ثلاثة أنواع من المجموعات الإيكولوجية الفلاحية داخل هذا النطاق الواسع.
        ـ  مجموعة الهضاب شبه الجافة تمثل أراضي تتلقى أقل من 400 مم (بل أقل من 350 في كثير من أجزائها)، إضافة إلى تفاوت سنوي مرتفع. وهي مجالات تربتها محدودة، بسبب بروز القاعدة الصخرية في الكثير من السطوح. لذا، فإن الرقعة الزراعية تنحصر في بعض المساحات الخاصة، مع محدودية كبرى للموارد المائية.
        ـ  مجموعة الهضاب والسهول السهوبية أكثر جفافاً من المجموعة السابقة (أمطار بين 100 و300 مم)، إضافة إلى وضع قاري يرفع من حرارة الصيف، ويجعل من برودة الشتاء عائقاً إضافياً.
        في هاتين المجموعتين، تحتل الزراعة بعض المواقع، وتنمو محلياً بسبب تمديد الري. لكن الاستراتيجية التنموية تعتمد أساساً على تطوير الرعي بأشكال مختلفة حسب الظروف، مع البحث عن إدماج الزراعات في هذا السياق، لتكون منسجمة مع الهدف الرعوي الأساسي.
        ـ  وتنفرد داخل هذا النطاق الجاف ونصف الجاف، مجموعة من المناطق لها الخاصيات المناخية نفسها، وهي ضعف التهاطلات السنوية وارتفاع التفاوت السنوي. لكنها تتميز بظرفين هامين سمحا بإقلاع الفلاحة فيها، ألا وهما: امتداد المساحات الزراعية الخصبة التربة من جهة، وتوافر إمكانات مائية عبر تحويل مياه أنهار كبرى من جهة ثانية. هذا التظافر كان الأساس في تطوير فلاحي خلق في مجالات جافة، قطاعات سقوية ممتدة، متنوعة المنتوج ومرتفعة الإنتاج. ويمثل انتظام المورد المائي تأميناً يسمح بتصور استراتيجيات زراعية ورعوية أكثر تكيفاً مع حاجيات الأسواق.
        ـ  المناطق الجنوبية مجال فلاحي تنبني استراتيجية تطويره على تنمية الموارد الرعوية والحماية من التصحر من جهة، وعلى تقوية منتوج الواحات من جهة ثانية. لذا كان من اللازم التفريق بين المناطق القريبة من الصحراوية والصحراوية، حيث تمتد الواحات على رقعة واسعة، سامحة بخلق رصيد زراعي وكثافات بشرية هائلة في مراكز تتمحور حول الأودية الأطلسية، ومناطق صحراوية أخرى تتباعد فيها الواحات وتقل امتداداً بسبب ندرة الموارد.
        هذا التحديد السريع للنطاقات الفلاحية يبين بكل وضوح تنوع الواقع الفلاحي وضرورة اندراج السياسة الفلاحية تبعاً للظروف الطبيعية ووفرة الموارد وإمكانات تطوير هذه الموارد.
        إلا أن مقياس النطاقات لا يمثل الحجم الفعال لتوجيه السياسة الفلاحية، لأن النطاقات تخرج كلياً عن الحدود الجهوية وتتخطاها. فالنطاق الجبلي موجود من شمال المغرب إلى جنوبه، والسهول ذات الإمكانات السقوية العالية موجودة على الواجهتين الأطلنتية والمتوسطية. لذا كان من الواجب تصور وحدات من حجم أقل، لها وحدة جغرافية من حيث الموقع، تتميز بالاستمرارية من حيث المجال وتتسم بمؤهلات متجانسة نسبياً.
        أما التحديد الإقليمي للوحدات المجالية ـ الفلاحية، فهو ينبني أولاً وأساساً على مفهوم جغرافي، وهو مفهوم الإقليم المتصف بمجموعة من الأوصاف العامة، تشخصه عن الأقاليم المجاورة، وتتآلف حول مفهوم »المؤهلات الغالبة«. والمعول أن تحدد السياسات المتكيفة مع هذه المؤهلات الأساسية لكل وحدة.
        الهدف الأول من هذا التقسيم هو الإدماج الأفقي للسياسة الفلاحية للاستجابة للحاجيات المرتبطة بعضها ببعض فيما بين القطاعات المختلفة، داخل كل إقليم. ذلك بأن النظام الإنتاجي هو حصيلة لقطاعات متعددة ولا يمكن تصورها معزولة بعضها عن بعض.
        الهدف الثاني هو التكيف مع تنوع الظروف الإقليمية، باعتبار الإمكانات والعوائق وباعتبار نظام الإنتاج، وذلك بتصور اختيارات تكنولوجية متنوعة، وبنيات تأطير وتوجيه متكيفة مع الطلب والحاجيات، وقوانين استثمار تسمح بتشجيع المؤهلات الغالبة والاختيارات الأساسية.
        والهدف الثالث هو الاندماج داخل السياسة العامة، التي ترمي إلى اللامركزية الجهوية، بسن ميكنزمات جديدة للبرمجة تتم في إطار الجهات وفي توزيع حقيقي للمسؤوليات.
2  ـ  المجالات الجبلية: تهميش اقتصادي وتدهور بيئي
        لقد أدت الجبال في شمال إفريقيا دوراً أساسياً على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهي تمثل الآن ذخيرة بيولوجية وتراثاً اجتماعياً، من المستعجل تنميته قصد تخطي أشكال الانزواء الذي صار يعيشه المجال الجبلي منذ الحماية الأوروبية.
        وتحتوي الجبال على تنوع هائل في أشكال استعمال التربة والثروات، وغالباً على كثافة في الاستيطان والاستغلال، مع تكيفات عجيبة إزاء متطلبات البيئة وحدودها. وقد ساد هذا الوضع قبل الحماية مع توازنات بيئية حصل عليها الإنسان بفضل استصلاحات متقنة. إلا أن هذا التوازن هش، تهدده باستمرار كل الطوارئ التي تنتج عن تحولات عنيفة هي نفسها متزنة، تراعي هشاشة البيئة. فقد كان هذا الاقتصاد يعتبر اقتصاد قلة، ينبني على الاستهلاك الذاتي للثروات المحلية، وعلى بعض المداخيل الخارجية. ومن بين هذه المداخيل الخارجية تجارة صغرى مع المجالات السهلية المجاورة.
        فالمجال الجبلي مجال طبعه الإنسان بطابع خاص بفضل مجهودات متواصلة تهدف إلى التحكم في القوى الطبيعية وإلى تدبير متزن للموارد. ولذا من الممكن الحديث عن حضارة زراعية ورعوية تخطت الصعوبات البيئية واعتمدت أساساً على المورد البشري، أي على إبداعية وروح خلاقة تمكنت من ابتكار الحلول الملائمة، وتنظيم اجتماعي محكم، به تقنين داخلي واتفاقات شفوية هدفها استمرار النشاط وتواصل الاستغلال.
        وتعيش هذه الحضارة اليوم أزمة تهميش، يتمثل أحد مظاهرها في تدهور الموارد والاتكال على الموارد الخارجية إضافة إلى الهجرة.
        وقد سعت عدة تجارب إلى حل معضلة الجبال دون أن تنجح في ذلك.
        يعتمد النظام التقليدي على حرية ولوج الموارد الطبيعية واستغلال جزء منها، مع تقنين جماعي لهذا الولوج. وأتت قوانين الغابة بعد التعمير الأوربي لاقتطاع المجال الغابوي من المساحة الجماعية مع ضبط إمكانات استغلالها؛ كما عمل التعمير على الحد من مجال تحرك القبائل، وذلك بالاستيلاء على أجواء الأراضي التي كانت تمثل أراضي تكميلية.
        وبينما ألحت المشاريع الأولى للإعداد على هدف الحدّ من التدهور، صارت الأهداف الإنمائية في المقدمة ابتداء من الثمانينيّات؛ كما أن محاولة احتواء التعقيد الملاحظ في الأوضاع السوسيولوجية وإشراك السكان في مشاريع التهيئة مثلت تقدماً كبيراً، وأصبحت أهداف الرفع من الإنتاج عن طريق سن تقنيات جديدة تثير انتباه السكان وتضمن اهتمامهم.
        وقد كان النظام الجماعي هو السر في نجاح هذا الاستغلال المتزن للثروات حيث يسمح التقنين، المبني على تقاليد ومعاهدات شفوية غابرة في القدم، بوضع المنهاج المتقن الذي يسير عليه استعمال الثروات المتوافرة. كما ترتكز الحضارة الزراعية والرعوية الجبلية على الثروات البشرية، أي على إبداعية السكان وروحهم الخلاقة.
        ويلاحظ الآن أن هذا التوازن الهش قد تم تحطيمه، حيث تعرف جبال شمال إفريقيا مرحلة تراجع سريع تتضح على مستويات عدة: فالغابة صارت لا تغطي إلا بقعاً محدودة يتقلص مجالها بسرعة مهولة، وآليات الانجراف تقتلع التربة وتحفر في الركائز الصخرية؛ بينما صارت مياه الأنهار محملة بالأطنان من المواد الفتاتية التي تتراكم في السافلة عند قدم الجبال أو في بحيرات السدود، مهددة بذلك إمكانات الزراعة والثروات المائية القابلة للتعبئة. هذه الأزمة الحالية لها خلفيات اقتصادية واضحة. ومن العسير استصلاح المجال الجبلي من جهة، ومجال سهول قدم الجبال من جهة أخرى، دون التفكير في ظروف هذه الأزمة ودون وجود حلول ملائمة لها.
        وينشأ عن التدهور التدريجي لظروف البيئة فقدان لا رجعة فيه لعدد من الثروات يمكن أن تعتبر صعبة التجديد. والجبل محكوم عليه بأن يصبح غير قادر على منح التغذية الكافية لسكانه، خاصة وأن هؤلاء يعرفون تزايداً ديمغرافياً هاماً. فهل صار الجبل محكوماً عليه بأن يطرد سكانه ليصبح فارغاً بسبب تضاؤل الإمكانات؟
        لقد كانت هذه التهديدات السبب في الإحساس الذي أعرب عنه المسئولون بضرورة استصلاح المجالات الجبلية، لبلوغ الهدفين:
    ـ  هدف وقاية السافلات، أي العمل على توفير الظروف لخزن أكبر الكميات الممكنة من الماء، خاصة وأن بعض بحيرات السدود بدأت تشكو من مشكلة التحول والنقص من إمكانات التخزين.
   ـ   هدف وقاية العاليات، أي العمل على الحفاظ على أتربة السفوح من الضياع، وعلى الإمكانات الإنتاجية لهذه الأراضي المنحدرة، بل تقويم مسلسل التدهور وفي الوقت نفسه تحسين ظروف عيش السكان بضمان إنتاجية عالية أكثر.
        وفي هذا الإطار تم القيام بالعديد من التجارب الإنمائية والاستصلاحية بمساعدة منظمات دولية، وخاصة منها منظمة التغذية والزراعة والبنك الدولي. لكن يمكن القول، بعد 30 سنة من التجارب، إن انجراف التربة في الجبال لم يُتحَكَّم فيه بعدُ بل ما زالت آثاره في تفاقم وتهديداته في تزايد.
        يعزى هذا إلى أن مشاريع استصلاح الأحواض التصريفية الجبلية كان الهدف الأول منها التقليل من عامل الانجراف لحماية السافلة، وخاصة التجهيزات المائية والكهربائية، ولم تهدف أساساً إلى التنمية الإقليمية المتوازية للجبل. وظلت جل الاستثمارات الرسمية موجهة للتجهيز المائي، بينما بقيت المرتفعات الجبلية مهمشة ومنزوية. ومنذ أن ظهرت بوادر النقص في إمكانات التغذية المائية على المستوى الوطني، بدأ الإحساس بلزوم الاهتمام بالمجالات الهامشية.
        من جهة أخرى، يجب الإشارة إلى أن سياسة استصلاح الجبل تمت في إطار عام غير محكم، حيث كان هذا المجهود التنموي في تناقض نسبي مع التوجهات والاختيارات الأساسية للاقتصاد.
        فمثلاً، لم يكن من الممكن التقليل من اقتلاع الخشب للوقود، ما دام الغاز خاضعاً لضرائب باهظة تجعل استعماله مستحيلاً على ساكني الجبل الذين ليست لهم إمكانات مالية. أما الزراعة الجبلية التي تكون مداخيل أساسية لسكان المرتفعات، فإن تنميتها عن طريق تكثيفها في مجالات ضعيفة متكيفة تكون مستحيلة إذا لم تستخدم المياه لسقيها، بينما نجد كل الثروات المائية تسخر لتغذية السافلة؛ ولا يمكن تكثيف هذه الزراعة إلا إذا تم الحد من منافسة زراعية السهول لها.
        ومن ثم تبقى مختلف الحلول المقترحة على فلاحي المجالات الجبلية بهدف توقيف الاستغلال الجائر للثروات والحد من التعرية حلولاً غير مرضية حتى الآن. فغرس أشجار الزيتون لا يمكن نشره على مجالات واسعة، ما دامت أثمان بيع زيت الزيتون لا تستفيد من المساعدة التي تحظى بها الزيوت الأخرى. والتدجين للحد من تنقل الماشية على السفوح يتطلب ـ بالضرورة ـ التوفر الكافي على مواد علفية وبثمن مناسب. ولذا نلاحظ أن الجبل عادة ما لا يبدي تقبله لهذه الحلول المقترحة.
        هذه الحلول عادة ما تقترحها وتنفذها إدارة المياه والغابات، بينما السلطات المحلية لا تعتبر إلا أداة اتصال. أما المؤسسات التقليدية الجماعية والتي ما زالت فعالة في العديد من جهات الأطلس، فهي لا تعتبر شريكاً أبداً، بينما تعرف أنها هي التي كانت تشرف على استغلال الثروات الطبيعية في الماضي، وذلك بتطبيقها لنظام عقوبات لكل ما يخالف هذه القواعد.
        ويكمن الحل الحقيقي في استصلاح شمولي يضم التدابير المتخذة في السافلة لحماية الخزانات المائية والتدابير الخاصة بالعالية، والتي يجب أن تهدف في الوقت نفسه إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية لسكان الجبل، وإلى الحدّ من عمليات انجراف التربة. فلا يمكن أن تتخيل نجاحاً للسياسة الوقائية من الانجراف في غياب مساهمة فعالة للسكان؛ ومساهمة هؤلاء لا يمكن ضمانها إذا ما غاب إحساسهم بأن التدخلات هي في صالحهم المباشر.
        إن استصلاح المرتفعات الجبلية ووقاية أراضيها من خطر الانجراف يقتضي عدداً من التدابير والظروف:
        ـ  مساهمة السكان. ولهذا الغرض، لابد من تكييف الإطار المؤسساتي الذي تتم من خلاله التدخلات؛ وذلك يجعلها تصدر عن إطار تنظيمي إقليمي أو محلي، وبتقوية المؤسسات التمثيلية للجماعات المحلية.
        ـ  اهتمام السكان بهذه السياسة رهين بارتباط التدخلات الرامية إلى الحد من التعرية بمجهود تنموي حقيقي وتحسين فعلي لمستوى عيش السكان. وهذا يقتضي، بالإضافة إلى تحسين الإطار الاقتصادي العام وتكييفه، إشراك سكان الجبل في الأرباح الناجمة عن عمليات توقيف الانجراف التي سيتمتع بها سكان السافلة أساساً، أي مستعملو مياه السقي انطلاقاً من السدود، ومستعملو الماء الشروب. فالمجهود اللازم لإيقاف الانجراف سيقوم به سكان الجبل، بينما ستعود الفائدة الكبرى على سكان السهول. لذا فمن الواجب إشراك العالية في الفوائد، خاصة وأنهم فقدوا ثروات كانت لهم الحرية في استغلالها، كحرية التنقل داخل الغابة مثلاً. ويشكّل الحدُّ من هذه الحرية خسارة لسكان الجبل يجب أن يعوضوا عنها، وذلك بإعطائهم مجموعة من الإعانات مثلاً.
        والهدف الأسمى أن يكون الحفاظ للجبل على دور اقتصادي فعال، وعلى حيوية اجتماعية وثقافية حقيقية. وللحصول على هذا الهدف، لا ينبغي حصر التدخل في الجبل وحده. بل لابد من البحث عن حلول شاملة، تجعل السهول تساهم في المجهود لتنمية المالية، والعكس. كما أن الحلول التقنية المحضة في هذه الأوساط الهشة قلما تؤتي أكلها، وخاصة إن كانت مستوردة وغير متكيفة. ويتمثل الحل الصحيح في الانطلاق من الوسائل المحلية والتلقائية التي يملك السكان مفاتيح التحكم فيها.
       
خاتمة
        يمكن تلخيـص إشكالـية الجبال في ثلاثة رهانـات كبرى مترابطة فيما بينها هي:

·     الرهان المجالي، وينتج عن تفاوت واضح، بل تناقض صريح، بين تقدم تجهيز ونماء المجالات السهلية والسواحل من جهة، وتأخر الجبال من جهة ثانية.
·     الرهان الاقتصادي، ويتضح في ضآلة استغلال واستثمار الموارد الضخمة التي تزخر بها الجبال، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الإنتاج ومحدودية فرض الشغل. بل لا تجد الواردات المالية الخارجية نفسها الإطار المحلي لاستثمارها. لذا نجد النزعة الحالية نحو الهجرة والتخلي عن القرى النائية، وبالعكس توسع المدن التي تستقبل السكان المهمشين.
·     الرهان البيئي، ويتمثل في ضياع العديد من الموارد، وتدهور أوساط بيئية، وفقدان تراث إيكولوجي وثقافي. ومن أخطر ما يصيب الجبل تناقص الكميات المائية التي يزود بها السهول المجاورة، الأمر الذي يطرح إشكالية مستقبل هذه المجالات النامية نفسها.
        وتطرح هذه الرهانات مجتمعة إشكالية الجبل بصفتها قضية وطنية تستدعي سياسة واضحة واردة أكيدة، معبراً عنها على مستوى عالٍ. ومن الواجب أن تعترف هذه السياسة بخصوصية هذا المجال، وهو ما يقتضي القبول بقوانين متكفية، تهدف إلى تعويض العوائق عن طريق حوافز جبائية وإعانات مالية في إطار من التلاحم والتعاضد بين الجبل والسهل وبين أجزاء الجبل المختلفة. والغاية من ذلك هي السماح بانطلاق استثمارات فعالة في المجال الجبلي.
        والتناول الهادف هو ـ في الوقت نفسه ـ إراديّ، إذ يترك المجال واسعاً لتدخل الدولة، وتشاركيٌّ، لأنه يتجنّد له الجميع من منتخبين ومستثمرين وإداريين. كما أنه تناول مندمج، يتماشى مع مختلف الخطط والتصاميم القطاعية، في ميادين الفلاحة والغابات والمياه والتعمير
        وهكذا يكون للطرح الجبلي بعدُ إعداد التراب وبعدٌ تنمويٌّ. وينبني الطرح الأول على إدماج الجبل والسهل في إطار تعارف خلاق، بينما يستدعي الطرح الثاني ضبط الفاعلين الاقتصاديين والتعاون معهم في نظام مؤسساتي متوازن.
       

       


 

جديد : الأن يمكنك التحرك بسلاسة بين المواضيع السابقة واللاحقة عبر (الكيبورد) بالضغط على الزر الأيمن والأيسر

0 التعليقات:

إرسال تعليق